فصل: باب: الكفارة بالطعام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الكفارة بالطعام:

9607- نصدر هذا الباب بالسبب الذي يجوّز الانتقالَ من الصيام إلى الإطعام، كما صدرنا باب الصيام بمعنى العجز عن الإعتاق، فإن عجز من فرضُه الصيام لهَرمٍ أو مرض يجوز الإفطار بمثله في رمضان، فله الانتقال إلى الإطعام.
ومن أسرار ذلك أنا لا نشترط أن يكون المرض لازماً، بحيث يبعد عن الظن زواله؛ بناء على أن الكفارة تقبل التأخير، وقد يتأكد هذا السؤال بشيء، وهو أن من ماله غائب لا ينتقل إلى الصيام لعجزه عن العتق في الحال، وهذا فيه بعض الإعواص؛ فإن الفرق بينهما متعذر، والمرض مرجوّ الزوال، وحضور المال والانتهاء إلى المال ليس بعيداً عن الرجاء، والكفارة ليست على التضييق.
ولعل الممكنَ فيه التعلُّقُ بالظاهر، وهو المعتمد، وإليه الرجوع، قال الله تعالى في الانتقال إلى الإطعام: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]، وهذا المرض الناجز والعجز العاجل غير مستطيع، وقال تعالى في الرقبة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المجادلة: 4] والمراد: "فمن يجد رقبة أو مالاً يشتري به رقبة"، ومن ماله غائب لا يسمى فاقداً للمال.
ويجوز أن يقال: إحضار المال والمصيرُ إليه متعلق بالاختيار، والاختيارُ في مقدمات الشيء والتسبّب إليه كالاختيار في عينه، والمرض خارج عن الاختيار، والأولى اعتماد الظاهر، كما ذكرته.
9608- وقال الأصحاب: إذا سافر من عليه الكفارة وأراد الإطعام في سفره بسبب أن السفر الذي هو ملابسه مما يجوز ترك صوم رمضان به إلى القضاء، فقد صار طوائف من أصحابنا إلى جوازِ ذلك، وتشبيهِ السفر بالمرض، وهو الذي ذكره القاضي، ولم ينقل غيرَه، وطرد ما ذكرناه من أن كل ما يجوز الإفطار به في رمضان يجوز الانتقال به إلى الإطعام.
وهذا فيه إشكال؛ فإن المسافر قادرُ على الصيام، والفطرُ المثبَتُ رخصةٌ في حقه غيرُ منوطة بالعجز، والفطرُ بالمرض منوطٌ بالحاجة الحاقة، فلا يقع الاكتفاء باسم المرض، واسمُ السفر الطويل كافٍ-إذا لم يكن سفرَ معصية- في الترخّص بالرخص.
والانتقالُ إلى الإطعام منوط بعدم الاستطاعة في نص القرآن، فلا وجه لهذا.
والذي يدور في الخلد أن المرض الذي أطلقه الأصحاب ليس على ما أطلقوه؛ فإن الإنسان قد يطرأ عليه عارض يعلم أنه لا يدوم يوماً أو يومين، فيجوز الإفطار بمثله، ولا يجوز عندي الانتقال بمثله إلى الإطعام، ولو كان المرض بحيث يتوقع دوامه واستمراره لشهرين، فهذا هو الذي يجوز الانتقال بسببه، ثم الظنُّ يكتفى به.
ولو أطعم، ثم اتفق زوال المرض، وتعجّل الشفاء على القرب، فالإطعام مجزىء والقضاء به غير ممتنع، وهذا لابد منه.
9609- ومما يتعلق بهذا أن الصيدلاني رحمه الله نقل عن الشيخ القفال أنه قال: قال بعض أصحابنا: الشبق المفرط والغُلْمة الهائجة عذرٌ في الانتقال إلى الإطعام، وكان يستشهد بحديث الأعرابي: إذ قال في القصة المشهورة وهل أُتيت إلا من جهة الصوم، فقال صلى الله عليه وسلم: «أطعم».
سبَّبَ الأعرابي بما ذكرناه، فقدّره رسول الله صلى الله عليه وسلم عذراً، ونقله إلى الإطعام.
وذكر القاضي هذا الوجهَ، ولم يذكر غيره، وذكر صاحب التقريب وجهين: أصحهما- أن الغُلمةَ لا تكون عذراً؛ فإن الليالي متخللة، وفيها مقنع ومندوحة، وقصة الأعرابي مشكلةٌ مِنْ وجوهٍ، تعرضنا لها في كتاب الصيام.
وقد أجمع الأصحاب على أن فرط الشَّبَق لا يرخِّص في الفطر في رمضان، وإنما هذا التردد في الانتقال إلى الإطعام، ولعل من قال ذلك اعتلّ بطول مدة الامتناع نهاراً عنها، وهذا ينقضه طولُ مدةِ رمضان، وما أوضحناه من تخلل الليالي يُبطل هذا الخيال.
وقد انتجز القول في العجز المعتبر للانتقال من الصيام إلى الإطعام.
فصل:
قال: "ولا يُجزئه أقلُّ من ستين مسكيناً، كل مسكين مداً... إلى آخره".
9610- القول في ذلك يتعلق بالمخرَج والمخرَج إليه، فأما المخرَج، فالكلام في مقداره وجنسِه، أما المقدارُ، فستون مُدّاً، وأما الجنسُ، فالقول فيه كالقول في صدقة الفطر.
أما المخرَج إليه، فالكلام في عددهم، وصفتهم، فأما العدد، فليكونوا ستين، ولا ينقص حصة كلِّ واحدٍ عن مُدّ، فلو صرف أمداداً إلى مسكين في أيامٍ؛ صائراً إلى إقامة سدِّ الجَوْعاتِ في الشخص الواحد مقامَ أعداد المساكين، لم يجز، خلافاً لأبي حنيفة.
وأما صفتهم فليكونوا مساكين، بحيث يجوز للمكفر صرفُ الزكاة إليهم، ولا يجزىء التغذيةُ والتعشيةُ؛ إذ لا تمليك فيها، والتمليك مرعيٌّ عندنا في إخراج الكفارة، كما نرعاه في إخراج الزكاة. ولو أحضر الطعام، وقد شهد ستون مسكيناً فقال: خذوه، فأخذوه وجَهِلْنا مقدارَ ما أخذه كلُّ واحد منهم، واستبهم الأمرُ، فلا نحكم إلا بإجزاء مُدٍّ واحدٍ، فإن واحداً منهم لابد وأن يكون أخذ مدّاً أو أكثر، فهذا القدر مستيقنٌ، فيحصل براءة الذمة عن هذا المقدار. وهذا بيّن.
فروع شذت عن الأصول نأتي بها مجموعة إن شاء الله.
9611- إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت عليّ كظهر أمي، فالظهار مما يصح تعليقه كالطلاق، فلو أعتق عبداً عن كفارته قبل أن تدخل الدار، فقد قال ابنُ الحداد: تقع الكفارة موقعَها، وبنى هذا على أن تعليق الظهار أحدُ سببي الكفارة، وتقديمُ الكفارة على أحد سببيها جائز.
وقد خالفه معظم الأصحاب، فقالوا: هذا تقديمٌ للكفارة على سببيها جميعاًً؛ فإن كفارة الظهار لها سببان:
أحدهما: الظهار، والثاني: العودُ، ولا يحصل الظهار قبل دخول الدار.
ونظير المسألة التي ذكرناها ما لو قال: إن دخلت الدار، فوالله لا أضربك، ثم قدّم التكفير على دخول الدار، لم يُجْزه.
ووافقه بعضُ الأصحاب، وجعلوا تعليق الظهار بمثابة الظهار، وهذا بعيد، ثم هؤلاء لا يسلمون المسألةَ التي وقع الاستشهادُ بها في اليمين، فلو قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت عليّ كظهر أمي، ثم قال: إن دخلت الدار فعبدي حر عن ظهاري، فلا يخفى تفريع المسألة على رأي ابن الحداد، والعتق ينصرف لا شك فيه إلى الظهار على طريقته، فإنه إذا جوّز تنجيز العتق قبل الدخول، فما ذكرناه أولى بالجواز.
ومن خالفه من أصحابنا منع هذا أيضاًً؛ لأن تقديم العتق قبل الظهار ممتنع، وهكذا جرى الأمر.
ولو قال: عبدي هذا حر عن ظهاري إذا تظاهرت، لم يقع العتق عن ظهاره، وقد مهدنا هذا فيما تقدم من المسائل.
فرع:
9612- إذا قال الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، ثم جن عقيب اللفظ، أو مات، فالذي أطلقه الأصحاب أنه لا يكون عائداً؛ فإنه لم يمسكها مع التمكن من الطلاقِ، تاركاً الطلاق.
ولو جُن عقيب الظهار، كما صورناه، فأفاق، قال الشيخ: سمعت بعضَ الأصحاب يقول: نفسُ الإفاقة هل تكون عوداً؟ فعلى وجهين كالوجهين في أن الرجعة هل تكون عوداً، حكى هذا وزيفه، والعجب منه كيف يحكي مثلَ هذا.
ولو قال لامرأته: إن لم أتزوج عليك، فأنت عليَّ كظهر أمي، فلا يثبت الظهار ما لم يتحقق اليأس من التزوج، فلو مات، فقد حصل الظهار قبل موته بلحظة، هكذا قال ابن الحداد وهو سديد، لا شك فيه، ثم قال بعده: وهو عائد يلزمه الكفارة، فإنه ظاهر ولم يطلق.
وقد غلطه كافةُ الأصحاب، فقالوا: أما الظهار، فقد ثبت ولم يثبت العود، فإنه عقيب الظهار مات، فإن كان يقول ابن الحداد من مات عقيب الظهار، فهو عائد، فقد خالف ما عليه الأصحاب، والموتُ لا ينحط عن الطلاق، والنكاحُ ينتهي به، وإن قال: هو لم يطلق، لم يقبل منه هذا وقد ارتفع النكاح.
هذا منتهى ما أردناه، والله المستعان الموفق من يهتدي إلى المأخذ الأعلى، فإن مذهب إمامنا الشافعي تدواره على الأصول، ومآخذ الشريعة.

.كتاب اللعان:

9613- اللعان عبارة عن الكلمة المذكورة في كتاب الله تعالى من قوله سبحانه: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} إلى قوله: {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6-9]، وسميت الكلمةُ لعاناً لاشتمالها على اللعن، وإنما وقعت التسميةُ به، وهو أقل الكَلِم؛ لأنه غريب في مقام الشهادات والأيْمان، والشيء يشهر بالغريب الواقع فيه، وعلى ذلك جرى معظم تسميات سُوَر القرآن، ولم تقع التسمية بالغَضَب؛ لأن الأصل كلامُ الزوج، وقد يثبتُ دون لعانها.
والأصلُ في مضمون الكتاب قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [الآيات النور: 6-9]، نزلت في عُويمر بنِ مالكٍ العجلاني، وقيل: هلال بن أمية رَمَى زوجتَه بشريك بن سَحْماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتأتينّ بأربعة شهداء، أو يُجْلدُ ظهرُك»، فاغتم به، وقال: «أرجو أن ينزل الله فيّ قرآناً يبرِّىء ظهري، فنزلت الآية، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم باللعان فتلاعنا»، وحكم بالفرقة بينهما ونفى الولد.
واللعان في ظاهر القرآن مرتبٌ على أن لا يجد الزوج بيّنة على تحقيق زناها؛ فإنه عز من قائل قال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6]، وهذا الترتيب عرفناه في منازل البينات من نص القرآن.
فكان هذا خارجاً على ذلك المذهب، وإن لم يكن شرطاً، قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]، ثم شهادة الرجل والمرأتين مقبولة مع التمكن من إقامة شهادة رجلين، فكان قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} [البقرة: 282]، محمولاً على اتفاق شهادة رجلين، والتقدير: إن لم يتفق شهادة رجلين، فشهادة رجلٍ وامرأتين.
9614- ثم أول ما نصدر به الكتاب أن الرجل إذا قذف زوجته وسوّغنا له أن يلاعن على ما سيأتي تفصيل ذلك في مسائل الكتاب، فلسنا نقول: اللعان من موجَبات القذف، بل موجَب القذف الحدّ أو التعزير، ولكن لو قذف الرجل أجنبية، فلا نخلّصه من القذف إلا ببينةٍ على زناها، أو على إقرارها بالزنا، وقد تُنشىء الإقرار فيتخَلّصُ.
وإذا قذف الرجلُ زوجتَه المحصنةَ، فما ذكرناه من المخلِّص في حق الأجنبيةِ ثابتٌ في حق الزوِج، وله مُخلِّصٌ آخر ضمّاً إلى تلك الجهات، وهو اللعان، فقد أثبت الشرع اللعانَ مُخلِّصاً للزوج يليق بحالة الضرورة، فإن المرأةَ إذا لطّخت فراشه وتحقق ذلك عند الزوج، فلو صمت وسكت، لاطّردَ العارُ، وقد يلحقه نسب متعرض للثبوت وهو في علم الله تعالى منفيٌّ، فخصه الشرع بمخلِّصٍ، والرجل على الجملة مبرّأٌ عن التهمة في قذف زوجته هَزْلاً من غير علم أو ظن غالب.
ثم اللعان يضاهي البينة ويشابهها في رد الحد عن القاذف وإثبات الزنا عليها، وله مزية على البيّنة؛ فإنه يتضمن قضايا لا تناط بالبينة واحدةٌ منها، وهي نفيُ الولد، ووقوعُ الفرقة، وتأبُّدُ التحريم.
وإذا ضممنا خصائصَ اللعان إلى ما يساوي اللعانُ فيه البينة قلنا: ما يتعلق باللعان خمسُ خصال: درءُ الحد عن الزوج، ووجوبُ الحد عليها إلا أن تلتعن، ويلتحقُ بهذا نفي الولد، ووقوعُ الفرقة، وتأبُّدُ التحريم.
وأبو حنيفة يجعل اللعان موجَب القذف، ويقضي بأنه عقوبة، وهو بالإضافة إلى قذف الزوجة كحدّ القذف بالإضافة إلى قذف الأجنبي.
فهذا تأسيس الكتاب في ماهية اللعان.
9615- ومما يُجريه العلماء في ذكر حقيقةِ اللعان أن أصحاب أبي حنيفة يدّعون أن اللعان شهادة، وأصحابُنا يقولون: اللعان يمين، والمنصف من أصحابنا يقول: في اللعان شَوْب اليمين والشهادة، فأما شوب اليمين، فأصدق شاهد فيه صَدَرُ اللعان عمّن هو في مقام الخصومة وهو يحاول تصديق نفسه، ولا يتصور هذا في مساق الشهادات، ثم يثبت في اللعان من أحكام الشهادة قضيةٌ واحدة، وهي أن الزوج إذا لم يلتعن، ونكل، ثم رغب فأراد اللعان، فله ذلك، كما لو لم يُقم المدّعي ببينة، ثم أراد إقامتَها، وليس كاليمين في هذه القضية، فإن من نكل عن اليمين، ثم رغب
فيها، لم يُمكَّن من الحلف.
فصل:
قال: "وفي ذلك دلالة أن ليس على الزوج أن يلتعن حتى تطلب المقذوفةُ حقها... إلى آخره".
9616- الزوج إذا أراد أن يلتعن، فلا يخلو: إما أن يكون ثَمّ ولد يُريد أن ينفيه، وإما أن لا يكون، فإن لم يكن له ولد، نظر: فإن كان القذف يوجب حداً على الزوج لو لم يلتعن، فله أن يلتعن وتنتفي العقوبةُ، ثم تثبتُ سائرُ قضايا اللعان، كما ذكرنا جُمْلَها، وسيأتي تفصيلها.
وإن كان موجب القذف التعزير، فسيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله.
وإن كان لا تتوجه العقوبة عليه بسبب عفوها، أو تصديقها إياه، أو بسبب قيام البيّنة على زناها، فلو أراد أن يلتعن والحالةُ هذه، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين:
أحدهما: ليس له ذلك؛ إذ لا ولد، ولا عقوبة، فإن أراد الخلاص منها، فالطلاق ممكن.
والوجه الثاني- له أن يلاعَن؛ ليردّ العار عليها؛ مجازياً إياها؛ إذ لطخت فراشه.
9617- ثم قال: "ولما لم يخص الله أحداً من الأزواج... إلى آخره".
غرض الفصل بيان من هو من أهل اللعان.
عندنا كل من كان من أهل الطلاق، فهو من أهل اللعان، وإن أردنا الضبط بأمرٍ أخصَّ قلنا: من كان من أهل استيجاب الحد بالقذف، كان من أهل اللعان، وإن قلنا: كلُّ مكلف ملتزم، فكل هذه العبارات جائزة، فالحر، والعبد، والذمي، والمسلم، مستوون.
ثم إن تفاوتوا في أقدار الحدّ، فلا تفاوت في اللعان أصلاً وتفصيلاً.
وأبو حنيفة يقول: من لا يكون من أهل الشهادة، فليس من أهل اللعان، وأخرج العبدَ، والذمي، والمحدودَ في القذف، ولم يُثبت لهما اللعان. وناقض في المُعْلِن بالفسق، وحكم بانعقاد النكاح بحضور محدودين، وإن كان النكاح لا ينعقد إلا بحضور من هو من أهل الشهادة.
ومعتمد مذهبنا أن اللعان حجة خاصة أثبتت للضرورة، فهي لائقة بكل مضطر، فمن أراد أن يحمل اللعان على مرتبة الشهادة مع أن الملاعن يُثبت دعوى نفسه، فليس على مُسْكةٍ من البصيرة.
ثم إن الشافعي رضي الله عنه رأى اللعان حجةً نادرة، فبنى أصلها على كتاب الله، وليس في الكتاب فصلٌ بين زوج وزوج، ولكن اللعان فيه معلقٌ بالرّمْي فمن كان من أهل الرّمْي، فليكن من أهل اللعان.
9618- ثم قال: "وسواء قال: زنت أو رأيتها تزني... إلى آخره".
أراد بهذا الرد على مالك؛ فإنه قال: يختص اللعان ببعض صيغ القذف، وأجرى الشافعي هذا على الرّمي المطلق المذكور في كتاب الله تعالى من غير اختصاص.
ثم إنا نذكر بعد هذا أصلين يتعين على الناظر الاهتمامُ بهما؛ فإنهما يجريان من الكتاب مجرى الأُسّ والقاعدة:
أحدهما: يشتمل على بيان اللعان حيث يجوز التسبب إليه ولا ولد.
والآخر- يشتمل على ذكر التسبب إلى اللعان وثَمَّ ولد يريد الزوج نفيه.
9619- فأما إذا لم يكن ولد، فالغرض أن نبيّن أنه متى يجوز للزوج أن يقذف ليلاعن، ومتى يحرم عليه ذلك.
فنقول: إذا رآها تزني، فلا شك أن له أن يقذفَها ويلتعن، وكذلك لو سمع رؤيةَ الفاحشة ممن يثق به-سواء كان من أهل الشهادة أو لم يكن إذا كان موثوقاً به- فله التعويلُ عند حصول الثقة على قوله المجرد.
ولو استفاض في الناس أن فلاناً يزني بفلانة، واتفق أنه رآه معها في الدار، فاجتمعت الاستفاضة والرؤية في الدار على ريبةٍ، فاجتماعهما بمثابة السماع من موثوق به يخبر عن معاينة الفاحشة.
والاستفاضة التي أطلقناها أردنا بها أن يلهج الناس بذلك، وليس فيهم من يخبر عن عِيان نفسه، ولو ثبتت الاستفاضة، ولم يُرَ معها على ريبة، فلا يجوز له أن يعوّل على مجرّد ذلك؛ فإنهم قد يلهجون بكلام مستنده سماعٌ من كاذب، ولو تجرّدت رؤيتُه الذي معها في الدار، فلا يجوز له أن يعوّل على ذلك؛ فإن هذا قد يكون ابتداءَ الأمر، وربما كان الرجل طالبها وهي أبيّة.
هذا ما ذكره العراقيون، والقاضي رحمه الله.
9620- والقول الجامع في ذلك أن ما ذكرناه على مراتب: المرتبة العليا فيه- إذا عاين، وهذا يورث اليقين، فيجوز إقامة الشهادة بمثله، فلا خفاء بجواز القذف والحالةُ هذه، ولا حاجة إلى أن يقيم شهوداً على زناها؛ فإنه عزّ من قائل قال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6]، فوضع اللعان حيث لا شهود، ثم الغالب أن الشهود لا يطّلعون، وهذه الفاحشة تهيأ لها خلوات: قد يطلع الزوج على بعضها، فلو توقف الأمر على اطلاع الأجانب، لعظم العار، وظهر الضرار، وعسر استدراكه.
وإذا لم يعاين فجواز القذف جارٍ أيضاً؛ فإن الغالب تحفّظُ المرأة عن زوجها، ولعل تصوّنها عنه يُبِرُّ على تصوّنها على الأجانب، فوقع الاكتفاء بظنٍّ غالب، مستندٍ إلى أمارة لائحةٍ، أَظهرُها إخبارُ موثوقٍ به عن العيان.
ثم الاستفاضة مع أنا لا نجد مخبراً عن عِيان نفسه لا تقوى؛ فإنّ المطاعن كثيرة في البرآء؛ فإذا انضم إليها رؤية رجل معها على ريبة، ثبتت العلامة، ومجرد الاستخلاء مرة لا يورث الاستفاضة في الناس.
والذي أراه أن الزوج لو رآها على استخلاء مراراً في محالّ الريبة، فهذا بمثابة انضمام الاستفاضة إلى الرؤية مرةً، ولو رأى الرجلَ معها في شِعارٍ على النعت المكروه، ولم ير عِياناً من كل ما تتحمل الشهادة به على الزنا، فهذا أقوى من جميع ما قدمناه.
فهذا هو الأصل المرعي في الباب.
9621- ثم حيث يجوز القذف لا نوجبه، بل نجوّزه، ونؤثر لذي الدّين ألا يقذفَ ويسترَ، ولا تُستحب مصابرةُ مسافِحةٍ؛ فإنه تعريض الفراش للتضمُّخ، بل الأولى أن يخلي سبيلها.
ورب أصلٍ ظاهر يخوض فيه الخائضون-وهو بديعة الشرع- ولا يتفطنون لسرّه. فَ الزوج يصرّح بقذفها على تهمة، والقذف في نفسه كبيرةٌ موجبةٌ للحد، والطلاق ممكن-وقد يفرض هذا ولا ولد- وهذا بعيد، مع أنه جعل ليصدِّق نفسه وكان يتفاقم الأمر لو كان تجب العقوبة عليها وجوباً لا تجد لها دارئاً، فأثبت الشرع دارئاً من جهتها.
ثم العار في طرد العرف من زنا المرأة يرجع على الرجل، ولن يغضب الرجل ويجشَم بأمرٍ أعظمَ من نسبة أهله إلى فاحشة، وهذه الخصلة تمنعه من القذف من غير ثبت. هذا موضوع اللعن.
والذي ذكرناه بيان القذف ولا ولد.
9622- فأما إذا كان على الفراش ولد، والزوج يبغي نفيَه، فهذا الأصل يترتب ويتفصل على مراتب أيضاًً: فإن استيقن الرجل أن الولد ليس منه بأن علم أنه ما وطئها قط منذ نكحها، فإذا أتت بالولد لزمان إمكان العلوق، فللزوج أن ينفي الولد، بل حقٌّ عليه أن ينفيه.
وهذا القسم يتميز في بعض صوره عن القسم الأول بما أشرنا إليه، وذلك أنا قلنا: يجب عليه أن ينفي إذا استيقن أن الولدَ ليس منه، ولا يحل للإنسان أن يستلحق دعيّاً، كما لا يحل له أن ينفي نسيباً.
وفي القلب من هذا شيء، وهو أن النفي إذا كان لا يتأتى إلا باللعان، فإيجاب اللعان والتعرض للفضيحة الكبرى على رؤوس الأشهاد صعبٌ، وربما يكون الإنسان بحيث لا تطاوعه النفس على احتمال ذلك، والذي أطلقه الأئمة من المنع من استلحاق الدّعي فيه إذا اعتمد استلحاق دعيٍّ قصداً، فأما إذا أَلحقَ الفراشُ به نسباً وهو ساكت، فلست أرى إيجابَ النفي باللعان مذهباً مقطوعاً به.
ويلتحق بهذه المرتبة ما لو كان يغشاها، ولكنها أتت بولد لدون ستة أشهر من وقت النكاح، فالقطعُ قائم، كما ذكرناه، ومن هذا القسم ما لو وطئها، فأتت بالولد من وقت الوطء لأكثرَ من أربع سنين، والجامع بمسائلِ هذا القسم حصولُ الاستيقان في انتفاء المولود.
والذي أطلقه العراقيون والقاضي وجوب القذف واللعان.
9623- ومن مراتب المسألة أن لا يستيقنَ الزوجُ الانتفاءَ، وهذا ينقسم أقساماً نأتي بها على صيغ المسائل: فلو وطئها الزوج، فأتت بالولد لستة أشهر فصاعداً من يوم الوطء في النكاح، ولم يستبرئها بعد الوطء بحيضة، فأتت بالولد للزمان الذي وصفناه، فليس للزوج والحالةُ هذه أن يقذف ويلاعن؛ فإن كون المولود منه ظاهر الإمكان، حتى لو جرى الأمر كما ذكرنا، ورآها الزوج على الزنا بعد وطئه إياها أو قبل وطئه والاستبراء، فلا سبيل إلى نفي الولد.
ثم إذا ذكرنا هذا في معاينة الزنا، فما الظن بالتهم والأمارات التي وصفناها؟ والحاصل في ذلك أنه إذا لم يَجْر استبراءٌ بعد وطئه، وأتت بولد لزمانٍ يمكن أن يكون منه، فلا سبيل إلى نفي الولد؛ فإن العلوق من الزنا إن كان ممكناً، فالعلوق من وطء الزوج ممكن أيضاً، ولا مُرجّحَ، وقد أمرنا بإلحاق الولد بالفراش، فلا يجوز التهجّم على نفي الولد بالإمكان، ولو فرض تساوي الإمكان حيث لا ولد، لما جاز القذف.
ثم هذا الذي ذكرناه بيّن في نفي الولد.
والذي ذكره العراقيون والقاضي أنه لا يقذف ولا يلاعن، ويعترض على هذا إشكالٌ وهو أن الولد إن كان لا يجوز نفيه، فالمنع من القذف واللعان لماذا؟ وقد علمنا أن القذف جائز حيث لا ولد، وذكرنا اختلافاً في جواز القذف حيث لا حدّ، ولا تعزير، فالمنع من القذف واللعان في هذا المقام بعيد عن القياس.
9624- ونحن نُجري بعد هذا شيئين- أحدهما- أن ما ذكره الأصحاب جرى منهم على وفاق؛ من حيث حصروا نظرهم، وردّوا فكرهم إلى الولد، ثم أجْرَوْا نفيَ القذف واللعان على مقصودهم، فالمرأةُ لا تُقذف، ولا يُلاعِن لينفيَ الولد، فإن كان كذلك، فالأمر منتظم.
فإن أرادوا بهذا أنه إذا لحق النسبُ، فلا سبيل إلى اللعان، فلست أرى لهذا وجهاً؛ إلا أن يقول قائل على بعدٍ: تأَكَّدَ الفراشُ بالنسب اللاحق، وإنما يجوز قطع النكاح حيث لا ولد؛ حذاراً من ولد سيكون، مع تضمخ المرأة بالفاحشة، فإذا وقع ما يُحذر توقّعاً، فالأصل أن لا لعان.
هذا وجه ذلك، ولم أذكر هذا إلا وظني غالبٌ في أنهم أرادوا المنع من القذف حيث يَلْحقُ النسبُ، فإنك لا ترى مسألة في اللعان وفيها نسب متعرض للثبوت، ثم إنه يلحق واللعان يجري، فكأن اللعان حجةُ ضرورةٍ لقطع النسب، وهو الأصل؛ فإنه الضرورة الحاقة، أو هو لقطع فراشٍ تلطخ بفاحشة الزنا.
وهذا لا يستقيم تعليله.
9625- صورة أخرى: إذا استبرأها الزوج بحيضةٍ بعد ما وطئها، ثم أتت بولد بعد الاستبراء لزمانٍ يمكن أن يكون العلوق به بعد الاستبراء، فكيف سبيلُ النسب، وهل يجوز اللعان؟
ما حَصَّلْتُه من طرق الأئمة وجهان صريحان، وفي كلام الأئمة ما يدل فحواه على ثالت: أحدها: أنه لا يحرم القذف واللعان والنفي؛ فإن الاستبراء السابق أمارةٌ دالّة على أن الولد ليس من الزوج، والدليل عليه أن وطء السيد أمته يُلحق نسب المولود الذي تأتي الأمة به لزمان الاحتمال بالسيد، ولو استبرأها بعد الوطء، انتفى النسب.
هذا كذلك في ملك اليمين، وفراش النكاح أقوى، فَجُوِّز للزوج أن يُقدم على النفي باللعان بما ينتفي بعينه النسب في ملك اليمين، ثم إذا ظهر جواز النفي، كان جوازُ النفي، أقوى أمارة في جوازِ القذف، وهو أَبْيَنُ من الاستفاضة ورؤيةِ الرجل من المرأة على ريبة.
وقال العراقيون: إن استبرأها، ولم يجر بعد الاستبراء زناً، ولا تهمةَ يسلط مثلُها على القذف حيث لا ولد، فلا سبيل إلى النفي، فإن جرى بعد الاستبراء زنا أو تهمة تسلط على القذف، فينفي النسبَ، ويُقدم على القذف.
والوجه الثالث:الذي ذكرته آتي به تفريعاً-فأما من لم يشترط بعد الاستبراء سفاحاً، فقد قطع قوله بأنه لا يجب النفي، بل يجوز، ولما فَصَلَ العراقيون بين أن يجري بعد الاستبراء زناً أو تهمة، وبين أن لا يجري، قالوا: إن لم يجر، لم يجز النفي، وإن جرى، وجب النفي، وإيجاب النفي قد لا يتجه مع إمكان العلوق من الزوج-وهذا هو المسلك الثالث: كيف وقد قدّمت في صدر الفصل أن إيجاب اللعان التّهدُّفَ للشهرة والفضيحة مشكلٌ حيث يستيقن أن الولد ليس منه، فكيف إذا كان للاحتمال مساغ، واللحوق على الجملة أغلب في الشرع في فراش النكاح من النفي.
فهذا حاصل الكلام في هذا الطرف.
9626- ومما ذكره القاضي أن المرأة لو جاءت بالولد، وهو شديد الشبه برجل، فلو أراد التعويلَ على الشبه في النفي باللعان المسبوق بالقذف، لم يجد إليه سبيلاً.
ولو انضم إلى الشبه تهمةٌ يسلط مثلها على القذف لو لم يكن ولد، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن النفي جائز؛ تعويلاً على الشبه والتهمة، حيث لم يجر استبراء فاصلٌ، وذلك أن الشبه والتهمة، أو عِيان الزنا إذا اجتمعا، كانت دلالتهما أظهرَ من دلالة دمٍ تراه المرأة، مع العلم أن الحامل قد ترى دماً، وإنما الخلاف في أن ما تراه هل يكون حيضاً أم لا.
وذكر العراقيون أمراً بدعاً، فقالوا: لو كان الزوج والزوجة على نعتِ شديدِ البياضِ، فأتت المرأة بالولد أسودَ ينأى لونُه عن لون الوالدين نَأْياً بعيداً، فهل يجوز التعويل على ذلك؟ قالوا: في المسألة وجهان: ولم يقيّدوا كلامهم بانضمام الزنا أو التهمة الظاهرة، إلى ما ذكرناه.
وظني بهم أنهم أرادوا ما ذكروه مع الزنا أو ظهور أمارة الزنا، وإذا كان كذلك، فهو في معنى الشبه، وإن كان يُحمل لونه البعيد على عرق نازعٍ من أحد الجانبين، فمثل ذلك ممكن في الشبه؛ فإنَّ الأجانب قد يتشابهون، وتُلقى مَشابهُ شخصٍ على شخص، وتعرُّضنا فيما ذكرناه للّون؛ إذ لا اعتبار بغيره من الخَلْق، فقد تلد حُسنى من أحسن الناس خَلْقاً ولداً مشوه الخَلْق، وقد تأتي به ناقص الخَلْق. فأما اللون البعيد، فهو الذي يثير غلبة الظن في انتفاء الولد.
ولو قرب اللون، فلا أثر له، كالأُدْمة والسمرة، والشُّقرة القريبة بالإضافة إلى البياض في الأبوين، فهذا كتفاوت الخَلْق.
وقد انتجز الأصلان الموعودان جرياً على أبلغ وجه في البيان، نقلأ عن الثقة، وتنبيهاً على محالّ الإشكال.
9627- ثم الذي نحب اختتام الفصل به أن تعويل الشرع في ظاهره على إلحاق النسب بمجرد العلوق في النكاح، وإن بعد، حتى إذا فرض الإتيان بالولد لستة أشهر فصاعداً من وقت النكاح، لحق النسب، وإن لم تُزفُّ الزوجةُ إلى الزوج، إذا كان التقاؤهما ممكناً. وإن لم يكن إمكان أصلاً، لم يلحق النسب، وقال أبو حنيفة: يكفى أن يمضي من النكاح مدةُ الإمكان، وإن قطعنا بامتناع العلوق من الزوج، بأن يكون أحدهما في الشرق والآخر في الغرب.
هذا حكم الشرع، وللزوج أن ينفي بالوجوه التي ذكرناها في الأصل الثاني، ثم الشرع لا يحتكم عليه بأن يبين تلك الأسباب التي بانت له، بل هو مؤاخَذٌ برعايتها بينه وبين الله، وليس كذلك اللَّوثُ المعتَبرُ في القَسامة؛ فإنه ما لم يظهر للقاضي لا يبدأ في اليمين بالمدعي، وذلك أن تيك الدعوى على صورة الدعاوى في الخصومات، والقاضي لا يبدأ في اليمين إلا بمن يستمسك بشيء يغلِّب على الظن صدقَه، وهذا المعنى إنما يحصل إذا ظهر اللوث عنده.
فصل:
قال: "ولو جاءت بحملٍ وزوجها صبيٌّ دون العشر... إلى آخره".
9628- تفصيل القول في السن التي تحيض عليه الصغيرة فتبلغ مما قدمناه في كتاب الحيض، وأعدنا طرفاً منه في كتاب الحَجْر، وكذلك القولُ في أقل الأسنان التي يُفرض احتلامُ الغلمان فيه مما قدمته.
والتي تمس الحاجة إلى إعادته في هذا الفصل سنُّ البلوغ في الغلام، فنقول: إذا استكمل عشراً، احتمل العلوق بعده قطعاً، ولو فرض انفصالُ مادة الزرع في العَشْر قبل استكماله العاشرة، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن ذلك لا يكون بلوغاًً.
والثاني: أنه يكون بلوغاً.
ثم من قال: يُتصور البلوغ في السنة العاشرة، اختلفوا: فمنهم من ذهب إلى أن الإتيان بالولد ينبغي أن يكون والغلام ابنُ العشر، حتى يُقدَّرَ البلوغُ في أثناء السنة.
ومنهم من قال: يجوز أن يحتلم على مُنْقَرض التاسعة، فتأتي الزوجة بالولد لستة أشهر، فيلحقه الولد وهو ابن تسع سنين وستة أشهر.
وحكى بعض المصنفين أنه يجوز أن يُفْرضَ بلوغُه في خلال السنة التاسعة، وقد ذهب كثير من الأصحاب إليه في حيض الصغيرة، وهو غريب في الغلمان جداً، وإن اشتهر في الصبيّة.
فهذا حاصل الاختلاف في أقل سنٍّ يبلغ الغلام فيه.
9629- ونعود بعد ذلك إلى التصريح بمقصود الفصل.
فإذا قبل الأب نكاح امرأةٍ لابنه الطفل، ثم استكمل عشراً، ومضى بعد العشر ستةُ أشهر، فأتت زوجتُه بالولد، وزعمت أنه منه، فالولد يلحقه؛ فإن احتمال الاحتلام على منقرض السنة العاشرة ممكن غيرُ مدفوعٍ باتفاق الأصحاب، وإن أتت بالولد عند انقراض السنة العاشرة، فهذا يخرّج على الخلاف في أن احتلامه هل يمكن في خلال السنة العاشرة.
ولو أتت بالولد عند الطعن في العاشرة، فالمذهب أن الولد لا يلحق، وفيه الوجه البعيد الذي حكيته عن بعض المصنفين.
9630- ومما يليق بتمام الفصل أن المرأة إذا أتت بالولد وهو ابن عشر، والتفريع على اللحوق في هذه الصورة، فلو لم يسبق منه ادعاء الصبيّ، فأراد وقد حقَّ الأمرُ أن يلتعن، وزعم أنه بالغٌ، فله أن يلتعن، فإن القول قولُه فيما يتعلق بهذا المعنى.
ولو قال: أنا صبي وأراد أن يلتعن، لم يكن له ذلك؛ فإن الصِّبا يمنع الالتعان، فالجمع بين دعوى الصبا وبين الالتعان متناقض، ولو ادّعى الصبا، ثم قال: كذبت فيما قلت، وإنما أنا بالغ، فألتعن، فله ذلك؛ فإنَّ كذبه لا يمنع من الاعتراف بالاحتلام؛ فان الإنسان لا يؤاخَذُ بما سبق منه في صباه، فإن كان صبياً إذ قال: أنا صبي، فقوله لغو، ولا مطّلع على الصبا بقوله، وإن كان بالغاً، فيجب تصحيحُ اللعان منه، وقبولُ قوله الثاني.
وفي كلام الأصحاب ما يدل على أنه إذا أكذب نفسه فيما قدّمه من دعوى الصبا لا يُقبل ذلك منه، ووجه القبول أن يدّعي أني بلغت بعد هذا، فإن ادعى ذلك، قُبِل منه؛ فإن احتمال الاحتلام مقترنٌ بكل حال، ولا يمتنع أن يكون صادقاً في ذكر الصبا، وهو صادق الآن في طريان الاحتلام.
فصل:
قال: "ولو كان بالغاً مجبوباً... إلى آخره".
9631- لا خلاف بين الأصحاب والعلماء الذين نعرفهم أن الممسوح يَنْكِحُ ويصح نكاحُه، فإذا بان ذلك فيه، فما الظن بالخَصِيّ والمجبوب، فإذا أتت امرأة واحد من هؤلاء بولد فالنصوص مضطربة والطرق على حسبها مختلفة.
والذي تحصّل هاهنا في ترتيب المذهب أن الرجل إذا كان مجبوباً، وبقيت خُصيتاه، فيلحقه النسب؛ فإن الماء كائن في الفطرة، وأوعية المني باقية ببقاء الأنثيين، وليس الذكر إلا آلة مزرِّقة توصّل المني إلى الرحم، وفوات التزريق لا يمنع إمكان الاحتلام، وربما يصل الماء إلى الرحم من غير إيلاج.
ولو قطعت خُصيتاه وبقي ذكره، فالذي رأيته للمحققين من الأصحاب أن النسب يلحقه أيضاًً، ولا حاجة إلى مراجعة أهل الطب في أنه هل يولد لمثله أم لا، ولا نبالي بنفيهم، وإن قالوا: قطعُ الخُصيتين يمنع إمكان الولد؛ لأن فيهما أوعيةَ المني والقوة المُحيلة للدم العبيط إلى المني الأبيض الثخين الدفّاق.
وقال بعض المصنفين: يُرجع إلى قول أهلِ الخبرة والأطباءِ في ذلك، فإن قالوا: لا يولد للخَصِي، لم يُلْحق به، وإن قالوا: يولد للخَصِي ألحقنا الولد به، وهذا التفصيل لا أصل له.
هذا كله إذا كان مجبوباً والخُصية باقية، أو كان خَصِياً والآلة باقية.
9632- فأما إذا كان ممسوحاً عديمَ الخُصيةِ والآلةِ: قال العراقيون: لا يلحقه النسب ولا مراجعة، وحكَوْا عن الإصطخري أنه قال: يلحقه الولد بلا مراجعة، وذكر القاضي هذا الذي أضيف إلى الأصطخري وصححه، وهو الذي ذكره الصيدلاني، واعتل من صار إلى ذلك بأن الماء معدنُه الصُّلبُ ومنفذه ثُقبةٌ إلى الظاهر، وتلك الثُّقبة باقية.
وهذا قولٌ عريٌّ عن التحصيل.
وهذا مجموع ما ذكر في ذلك.
فصل:
قال: "ولو قال: قذفتك وعقلي ذاهب... إلى آخره".
9633- إذا قامت بيّنة على إقراره بالقذف، ثم إنه ادّعى أنه كان مجنوناً حين قذف، ففي المسألة طرق: من أصحابنا من قال: إن لم يثبت جنون القاذف في سابق الزمان، فلا يقبل قوله والقول قولُ المقذوف مع يمينه، فيحلف بالله لا يعلم جنونَه في حالة قَذْفه.
ان ثبت أنه كان يُجنّ فيما سبق، ففي المسألة قولان: أصحهما- أن القول قولُ القاذف، فإنه إذا عُهد له جنون فيما سبق، فلا يبعد وقوع قذفه فيه، والأصلُ البراءةُ من وجوب العقوبة، فالقول قوله.
والقول الثاني- أن القول قولُ المقذوف؛ فإن البينةَ شهدت على إقراره بالقذف مطلقاً، والقذف المطلقُ محمولٌ على الصحيح التام، كما لو شهد عدلان على البيع مطلقاً، فهو محمول على الصحة.
هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قال: إن ثبت أنه كان يجن، فالقول قول القاذف وللمقذوف أن يحلّفه بالله تعالى ما قذفه في حالة عقله.
وإن لم يعهد له جنون فيما سبق، فإن ادعى أن القذف كان منه في جنونه، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أن القول قول القاذف؛ فإن الأصل براءتُه.
والثاني: القول قول المقذوف؛ فإن القذف ثبت، والأصلُ عدمُ الجنون، وهذا يقرب من تقابل الأصلين.
9634- فإذا جمعنا الطرق، انتظم منها أقوال: أحدها: أن القول قول المقذوف في كل حال.
والقول الثاني- أن القولَ قولُ القاذف في كل حال.
والقول الثالث: أنه إن عهد جنون، فالقول قول القاذف، وإن لم يعهد جنون، فالقول قول المقذوف.
ثم إذا جعلنا القولَ قولَ المقذوف، ورأينا التفريع على هذا، فلو أقام القاذف بينة أنه قذف في حالة الجنون، وأقام المقذوفُ بيّنةً أنه قذف في حالة الإفاقة، فإن كانت البينتان مطلقتين، أو كانتا مؤرختين بتاريخين مختلفين، أو إحداهما مُطْلَقة والأخرى مؤرخة، فليست البينتان متعارضتين، بل هما محمولان على قذفين، فيثبت القذف بالإضافة.
وإن كانتا مؤرختين بتاريخٍ واحد-مع التضييق في التصوير-فالبينتان
متعارضتين، وفي البينتين المتعارضتين قولان:
أحدهما: أنهما يتساقطان.
والثاني: أنهما يستعملان.
ثم للشافعي رضي الله عنه ثلاثة أقوال في كيفية الاستعمال إذا لم نحكم بالتهاتر: أحدها: قوْل القسمة.
والثاني: قول القرعة.
والثالث: قول الوقف.
فإن حكمنا بالتهاتُر، فنجعل كأن البينة لم تكن، وإن حكمنا بالاستعمال، فلا تجري القسمةُ والوقف.
وحكى من يوثق به عن القاضي أن قول القرعة يجري هاهنا فنُقرع بين البينتين ونقضي بالتي خرجت القرعة لها.
وهذا بعيد عندنا؛ فإن القرعة يستحيل إجراؤها في إقامة العقوبة، بل الوجه حسم استعمال البينتين، والقطعُ بتهاترهما وردُّ الأمر إلى الحالة التي لا يفرض فيها إقامة البينة.
9635- ومما يتعلق بالفصل أنه لو أقر بالقذف في مجلس القضاء، ثم قال عنيت بذلك قذفاً صدر مني في جنوني أو صباي، فهذا بمثابة ما لو شهدت بينة على إقراره بالقذف، ولو أقر الرجل ببيعٍ أو غيرِه من عقود المعاملات، فلما راجعناه قال: أردت بذلك أني بعت في صباي أو جنوني، فهو بمثابة ما لو قال: قذفت، ثم ادعى ذلك على ما مضى التفصيل فيه، ثم الفرق بين أن يُعهَد جنونٌ أو لا يعهَد فيه إذا أضاف ما صدر منه إلى حالة الجنون، فإن أضافه إلى حالة الصبا، فهو كما لو أضافه إلى حالة الجنون، وقد كان منه جنون معهود.
فصل:
قال: "ويلاعن الأخرس... إلى آخره".
9636- قد ذكرنا أن إشارات الأخرس في عقوده وحلوله ومعاملاته تنزل منزلة عبارة الناطق، وبيّنا أن إشاراته تنقسم إلى الصريح والكناية، وأشبعنا القول في هذا في كتاب الطلاق.
ولم يختلف أصحابنا في شيء إلا في الشهادة، فإن منهم من قال: هو من أهل الشهادة كالناطق، والأظهر أنه مردود الشهادة؛ لأن الشهادة تتعلق بالغير وللشرع تعبُّدٌ باعتبار كمالٍ فيها، ولهذا لا نقبلها من الرقيق.
فإذن الأخرس من أهل القذف، ثم هو من أهل اللعان عندنا، خلافاً لأبي حنيفة.
ويختلج في الصدر إشكالٌ في تأديته كلماتِ اللعان، سيّما إذا عيّنا لفظَ الشهادة، ولم نُقم غيرَها مقامها، فكيف تُرشد الإشاراتُ إلى تفاصيل الصيغ.
والذي ينقدح في وجه القياس، أن كل مقصود لا يتخصص بصيغةٍ من لفظٍ، فلا يمتنع إقامةُ الإشارة فيه مقام العبارة، وما يتخصص بصيغة مخصوصةٍ، فيغمضُ إعراب الإشارة عنها.
ولو كان في الأصحاب من يشترط في الأخرس الكِتْبة إن كان يُحْسِنُها، أو يشترط من ناطقٍ أن ينطق بالصيغة ويشير إليه بها، ويقول: تشهد هكذا وهو في ذلك يقرّره، ويُقرّب الإشارةَ جهده، فهذا يقرُب بعضَ القرب، فأما إشارةٌ مجردة تدل على صيغةٍ مخصوصة لست أهتدي إليها.
9637- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنه إذا أشار بالقذف، وأشار بحكم اللعان إن أمكنت الإشارة بها، ثم نطق فانطلق لسانه، وزعم أني لم أُرد بالإشارة قذفاً ولا لعاناً، فلا نقبل ذلك منه، ويكون كما لو صرح بالقذف ناطقاً، ثم أنكر، وهذا لعمري موجَبُ ذلك الأصل، ولكن الأصل في نفسه مشكل.
ولو صرح بالقذف ناطقاً، ثم أُصمِتَ واعتُقِل لسانُه، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: نمهله رجاء أن ينطق لسانُه يومين. ثلاثة، فإن نطق، وإلا حملناه على إشارة الأخرس.
ونقل بعضُ الأصحاب عن الشافعي: أنه يراجَعُ أهلُ البصيرة، فإن قالوا: سينطلق لسانُه، ولكن بعد مدة، ننتظر، ولكن في إطالة الانتظار إبطالُ حق المقذوفة.
وقد اعتمد الشافعي في إشارة الأخرس ما روي أن أمامة بنت أبي العاص أصمتت، فقيل لها: "لفلان كذا، لفلان كذا، فأشارت برأسها أي نعم، فرُفِع ذلك إلى عثمان، فرأى أنها وصية " وهذه تدل على أن من طرق التقريب إلى الفهم مع اعتقال اللسان العرضُ على المُعْتَقَلِ لسانُه مع إشارتِه المتضمنة تقريباً.
فصل:
قال: "ولو كانت مغلوبة على عقلها... إلى آخره".
9638- نجمع بعون الله في هذا الفصل القولَ في القذف الذي يتعلق به اللعان، والذي لا يتعلق.
فأما القذف الذي يتعلق به اللعان، فأصله أن يجري في النكاح غيرَ مضافٍ إلى زناً متقدم على النكاح، والقذف المطلق في النكاح ينقسم إلى ما يوجب الحدَّ، وإلى ما يوجب التعزير، فأما ما يوجب الحدَّ، فيتعلقُ به جواز اللعان.
ولكن المرأة لا تخلو إما أن تطلب الحد وإما أن تعفو عنه، وإما ألا تطلب الحدّ ولا تعفو، فإن طلبت، الْتعن الزوج، واندفع الحد عنه، ثم يُعرض اللعان عليها، فإن التعنت، اندفع حدّ الزنا عنها، وإن نكلت، حُدّت حدَّ الزنا، وإذا كان القذف بحيث يوجب الحدّ على القاذف، فالذي وقعت النسبةُ إليه يوجب حدَّ الزنا على المقذوفة، لو تحقق.
وإن عفت عن الحد وأسقطته، فلا يخلو: إما أن يكون ثَمَّ ولدٌ متعرض للثبوت لا ينفيه إلا اللعان أو لا يكون. فإن تعرض نسبٌ للثبوت، فالزوج يلتعنُ لا محالة؛ فإن المقصود الأظهر من اللعان نفيُ النسب المتعرض للثبوت.
يان لم يكن ثَمّ ولد، فهل يلاعن الزوج، وقد عفت المرأة عن حد الزنا؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا يلاعن؛ فإنه ليس في اللعان غرضٌ ظاهر، وهو أُثبت في الشرع حجةً للضرورة؛ ولا نسبَ ولا عقوبةً، فلا معنى للعان.
والوجه الثاني- أنه يلاعن حتى يَرْحَضَ ويغسل العارَ عن نفسه، ويرَّد العار إليها، وقد تنكُل، فتلتزم حدَّ الزنا.
فأما إذا كان القذف موجباً للحد، فلم تطلبه المرأة ولم تعْف، فالفذهب الصحيح أن الزوج له أن يلتعن.
وقال بعض أصحابنا: لا يثبت الالْتعان ما لم تطلب الحدّ؛ فإنّ اللعان أُثبت لدَرْء الحدّ ونفي النسب، ولا نسب في المسألة، وليس الحد مطلوباً، فيدرَأ.
والأصح أنه يلتعن حتى ينقطع توقُّع طلبها.
هذا كله إذا كان القذف موجباً للحد.
9639- وأما إذا لم يكن موجباً للحدّ، ولكن كان يقتضي تعزيراً، فالذي نقدمه أنه إذا كان في الواقعة نسبٌ، وهو يبغي نفيَه، فيلاعن كيف فرض الأمر، سواءٌ طلبت أو لم تطلب، عَفَتْ أو لم تَعفُ، سواءٌ كان التعزير تعزيرَ التكذيب أو تعزيرَ التأديب، على ما سنبين انقسامَ التعزير؛ وذلك أن أعظم المقاصد نفيُ النسب، كما ذكرناه، وهو ثابت، فلا مبالاة مع تعرض النسب لغيره.
وإن لم يكن في الواقعة نسبٌ والقذفُ موجِبُ التعزير، فلا يخلو التعزير إما أن يكون تعزيرَ التكذيب، وإما أن يكون تعزيرَ التأديب، وتعزيرُ التكذيب هو الذي يستوجبه الرامي، وهو مكذَّب في رميه في ظاهر الشريعة، والتعزيرُ يقام لتحقيق تكذيبه، وهو نحو أن يقذف الرجل أمةً أو كتابيةً، فلا حد، ولكنه يلتزم التعزيرَ تكذيباً له.
والنوع الآخر تعزيرُ التأديب، هو أن يقذف امرأةً بزنا قد ثبت عليها من قبلُ: إما ببينةٍ أو إقرار، وقد أقيم عليها حدُّ الزنا، فالرامي يستوجب التعزيرَ؛ من جهة تعرضه لها بالإيذاء، وليس المقصد من هذا التعزير إظهار تكذيب الرامي؛ فإنه مصدَّقٌ، وإنما الغرض منعُه عن معاودة مثل ذلك على طريق التأديب.
فأما تعزيرُ التكذيب فنصوّر فيه ثلاثَ مسائل: إحداها- أن يكون القذف متضمناً تعزيراً والطَّلِبةُ متوجهةٌ به، وذلك مثل أن يقذف الزوج زوجتَه الأمةَ أو الذميّةَ، وطلبت التعزير، فالمذهب الذي قطع به الأئمة المعتَبَرون أن للزوج أن يلاعنَ، ويرفعَ عن نفسه التعزيرَ؛ فإنه عقوبة تتعلق بالطلب كالحد، فإذا طلبته، كان له رفعُه باللعان، وفي بعض التصانيف ذكر خلاف في هذا؛ من حيث إن الواقعة عريةٌ عن نسبٍ متعرض للثبوت، وعن عقوبةٍ لها وقعٌ، وهي الحد. وهذا مما لا يجوز الاعتدادُ به، والوجه بناء المذهب على القطع بجريان اللعان إذا فرض طلبُ التعزير الذي يُثبت تكذيباً من المرأة.
وأما إذا لم يتوجه الطلب، فهذا ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: أن تعفوَ المقذوفةُ عن التعزير، فإن كان كذلك، فهل يلاعن الزوج؟ فعلى وجهين قدمنا توجيههما ومأخذهما.
والقسم الثاني أن تكون المقذوفةُ بحيث لا يَتأتى منها الطلب، وذلك بأن تكون مجنونةً أو صغيرةً، ولا ينوب غيرُ المقذوفةِ مقامَها في طلب التعزير وفاقاً، فإذا أراد الزوج أن يلتعن قبل أن تبلغ المقذوفة مبلغَ الطلب: بإفاقةٍ أو بلوغٍ، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين فيه إذا عَفَتْ المقذوفةُ، وكانت من أهل العفو، وهذه الصورة أولى بأن يثبت اللعان فيها؛ فإن الزوجَ لا يأمن توجُّهَ الطّلِبة عليه بالتعزير إذا زال المانع الذي بالمقذوفة.
ولو كانت المقذوفة من أهل الطلب، فلم تعف، ولم تطلب، وسكتت، فأراد الزوج أن يلْتعن قبل أن تطلب، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا كان بها مانع من الطلب، كالصغر والجنون، وهذه الصورة الأخيرة أولى بجريان اللعان من التي قبلها؛ فإن التعزير متعرضٌ للإقامة وهي مستمكنةٌ من الطلب متى شاءت.
هذا تفصيل القول فيه إذا كان القذف موجباً لتعزير التكذيب ولا نسبَ.
9640- فأما إذا كان القذف موجباً لتعزير التأديب، وذلك مثل أن ينسب الزوج زوجته إلى زناً كان قد ثبت عليها ببيّنة أو إقرار، وأقيم الحد، فإذا نسبها الزوج إلى ذلك الزنا، استحق التعزير، من جهة انتسابه إلى إيذائها، فلو طلبت المرأة التعزير، فهل يلتعن الزوج في هذا النوع من التعزير؟ هذا مما اختلف النص فيه، فالذي حكاه المزني عن الشافعي أنه قال: "عُزّر إن طلبت ذلك، ولم يلتعن " وظاهر الكلام أنه ليس له الالتعان أصلاً وإن طلبت التعزير.
وحكى الربيع عن الشافعي أنه قال: "عُزر إن لم يلتعن، فأثبت له اللعان لدرء التعزير"، واختلف الأصحاب على طرق: فمنهم من قال: في المسألة قولان:
أحدهما: أنه يثبت اللعان كما يثبت في تعزير التكذيب في صورة الطلب، ويحمل لعانه أيضاً على قطع النكاح ودفع العار.
والقول الثاني- ليس له اللعان أصلاً؛ فإن اللعان بيّنةٌ خاصة متضمَّنُها تحقيق القذف، ولا معنى لهذا فيما نحن فيه؛ فإن الزوج مصدَّق فيما نسبها إليه، فلا يستفيد باللعان تصديقاً، ويخرج اللعان عن وضعه، و التعزير إنما أُثبت في هذا المقام تأديباً، وهو مع اللعان حريّ بالتأديب، فيجب ألا يكون للعان أثر في دفعه.
ومن أصحابنا من صوّب المزني وغلّط الربيع، ونفَى اللعان، وهذا هو القياس الحق، وهو الذي نبهنا عليه في توجيه أحد القولين في الطريقة الأولى.
ومن أصحابنا من صوّب الربيع وأوّلَ كلام المزني على ما سنصفه، وقال: الأصل في اللعان قذفٌ يصدر من الزوج يسوِّغ له الإقدامَ عليه، ليبتني عليه قطعُ النكاح باللعان الذي يتضمن غسلَ العار، وهذا المعنى متحقق فيما نحن فيه، وأوّلَ كلامَ المزني وحمله على موافقة منقول الربيع، فقال: قوله: "عزر إن طلبت ذلك، ولم يلتعن " فيه تقديمٌ وتأخير، والتقدير عُزّر إن طلبت التعزَير، ولم يلتعن، وهذا يقع على هذا التأويل على معرض الإخبار بأنه لا يلتعن معطوفاً على الشرط في قوله: إن طلبت، فكأنه قال: إن طلبت، المرأة، ولم يلتعن الزوج عُزِّر.
وهذا لا حاجة إليه، وقصاراه حمل منقول المزني على موافقة ما لا وجه له في الصحة؛ فإن اللعان إذا كان لا يفيد تصديقاً، فهو حائدٌ بالكلية عن وضعه، وتغليط الربيع هو الأولى، ولا يتوجه في القياس إلا نفي اللعان.
9641- ثم يتعلق بتمام البيان في ذلك أمران:
أحدهما: أنا إن نفينا اللعان فالتعزيرُ متوجه على الزوج تأديباً، ثم اختلف جواب الأئمة في أن هذا النوع من التعزير هل يتوقف على طلب المقذوفة؟ فمنهم من قال: لابد من طلبها؛ فإنها المقصودةُ بالأذى، فعلى هذا يسقط بإسقاطها.
ومنهم من قال: لا يتوقف هذا على طلبها؛ والصادر من الزوج سوء أدب يستوجب به من طريق الإيالةِ والسياسةِ تأديباً، وهو بمثابة ما لو قال الرجل: "الناس زناة"، فالسلطان يؤدبه، وإن كان لا يُفرضُ طلبُ التأديب من أحد.
وهذا غيرُ مرضيّ.
والوجه القطع بتعلّق التعزير بطلبها؛ فإنها مخصوصةٌ بهذا الإيذاء، ولفظ الشافعي رحمه الله مصرّح بهذا؛ فأنه قال: "عُزّر إن طلبت ذلك".
وإنما يليق التردد بصورة أخرى: وهي أن الرجل إذا قال لامرأته: زنيتِ وأنت بنت شهر، أو بنت يوم، فالذي ذكره غيرُ ممكن الوقوع تصوّراً، وهو متعرض للتعزير، وفيه ظهر اختلاف الأئمة في أن هذا التعزير هل يتعلق بطلبها؟ ووجه تخريج الخلاف أنها لا تتعيّر إذا نُسبت إلى مُحال، وليس كذلك إذا ما جدد ذكر الزنا، فالتأذّي لاحق.
فهذا بيان القول في الطلب.
9642- ومما يتم الغرض به: أنا إذا قلنا: لا يتعلق التعزير بطلب المذكورة، فالسلطان يتولاه، وإن قلنا: لابد من طلبها، فقد يعترض في هذا أمر، وهو أن قائلاً لو قال: ما الذي يمنع السلطان من زجر هذا عن معاودة أمثال ما نطق به تعلّقاً بالسياسة الكلية؟ قلنا: إذا رأينا ذلك متعلِّقاً بالطلب، فالوجه في هذه الواقعة ألا يبادره السلطان بالتعزير، بل يصبر إلى أن يتبين الطلبَ؛ لأنه لو ابتدر بالعقاب، لكان تاركاً حقَّ مَنْ له حق الطلب، وهذا إجحافٌ به، فإن الشرع إذا ربط شيئاً بطلبِ طالبٍ، فهو على غرضٍ في التردد بين الصفح والطلب، وتفويتُ هذا عليه إبطال حقه.
فإن قلنا: لا يتعلق هذا التعزير بالطلب، فلا تنقسم المسألة، وإن قلنا: يتعلق التعزير بالطلب، وفرعنا على أنها لو طلبت، لالْتعن الزوج، فلو عفت، فوجهان، ولو لم تعف، ولم تطلب، فوجهان مرتبان على النسق المقدم.
وكل ذلك والقذف مُنْشأٌ في النكاح، من غير إضافة الزنا إلى ما قبل النكاح.
9643- فأما إذا قذف امرأته بزناً أرّخه بزمانٍ متقدم على النكاح، فقال: زنيتِ قبل أن نكحتك، فلا يخلو إما أن يكون في الواقعة ولدٌ يحاول نفيه، وإما أن لا يكون ولد.
فإن لم يكن، فقد قطع الأصحاب بأنه لا يلتعن؛ فإنه تعرض لنسبتها إلى الفاحشة في وقتٍ لم تكن فراشَه فيه، وإنما أُثبت اللعان للزوج في مقابلة تلطيخها فراشه. هذا متفق عليه، ولا فرق بين أن يكون القذف موجباً حدّاً أو تعزيراً.
فأما إذا كان في الواقعة مولود والزوج يحاول نفيه، فإذا قذفها بزنا متقدمٍ على النكاح، ورام أن ينسب الولدَ إلى العلوق من ذلك الزنا، فهل يجوز له أن يلاعن والحالة هذه؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أنه يجوز-وهو الظاهر- لضرورة نفي النسب المتعرض للثبوت، والزنا وإن أرّخه قبل النكاح، فضرورة الولد حاقّة في النكاح، ونحن نُثبت اللعان لنفي الولد الكائن في نكاح الشبهة، فلا يبعد ثبوته، وإن تأرّخ الزنا بما قبل النكاح.
والوجه الثاني-وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي- أنه لا يلاعن ويلحقه النسب؛ فإن عماد اللعان قذفٌ يتضمن نسبتَه إلى تلطيخ الفراش الكائن.
فإن قيل: هذا يؤدي إلى إلحاق النسب به، كان الجواب أنه المقصّر؛ إذ أرخ الزنا، ولو أطلق النسبة إلى الزنا، ولم يتعرض لتأريخه، لأمكنه أن يلتعن، وينفي النسبَ، فهو الذي فوّت على نفسه الدّفعَ الذي أثبته الشرع له.
9644- ومما يتعلق بتتمة الفصل أنه إذا قذفها بعد البينونة وارتفاع النكاح؛ فإن كان ثَمّ ولد متعرض للثبوت، فله اللعان.
وإن لم يكن ثَمّ ولد، فلا سبيل إلى اللعان، سواء أطلقَ القذفَ، أو أضافه إلى النكاح المرتفع؛ فإنه لا حاجة إلى القذف، ولا فراش ولا نسب.
وكذلك لو نكح امرأة نكاحاً فاسداً وقذفها، فإن كان ثَمّ ولدٌ يريد نفيه، فله اللعان عندنا، ثم حيث يلتعن لنفي النسب ولا نكاح، فإذا انتفى النسب، اندفع الحدّ تبعاً؛ فإن اللعان حجة متضمنها إثبات الزنا، ويستحيل أن تقوم حجة شرعية على الزنا، ويقع القضاء بصحتها، ثم يُحدّ الناسب إلى ذلك الزنا.
ولو نكح امرأة وقذفها، وهو على اعتقاد الصحة في النكاح، فالْتعن ولا ولد ثم يتبين فساد النكاح، فهل يُقضَى باندفاع الحد والحالة هذه؟ فعلى وجهين أوردهما المحققون من المراوزة:
أحدهما: أن الحدّ يجب؛ فإنا تبيّنا بالأَخَرة فسادَ اللعان، ولو علمنا ذلك ابتداءً، لمنعنا من الإقدام على اللعان، فإذا بان آخراً، تبيّنا فساد اللعان.
والوجه الثاني- أن الحد يندفع؛ لأنه جرى في مجلس القاضي ما هو في الشرع تصديق القاذف، فيبعُد مع جريانه إقامةُ الحدّ، وإذا علمنا فساد النكاح، لم نتركه يلتعن.
ثم مهما جرى اللعان في بينونةٍ أو نكاح فاسد لنفي النسب، فالمرأة هل تلتعن؟ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: أنها تلتعن في مقابلة لعانه، كما لو كانت في نكاح صحيح.
والثاني: أنها لا تلتعن؛ فإن اللعان حيث لا نكاح مقصوده نفي النسب، ولا حاجة إلى لعانها في نفي النسب؛ فإنها تتعرض لإثبات النسب في مضادة الرجل النافي، فيبعد إثبات اللعان في حقها.
فإن قلنا: إنها لا تلتعن، فلعان الزوج لا يُثبت عليها الحدَّ، فينحصر الغرضُ من هذا اللعان في نفي النسب، ثم يتبعه انتفاءُ الحد عن القاذف، وذلك أنا لو ألزمناها الحد، لكان ذلك إرهاقاً منا إياها إلى الحدّ على وجهٍ لا تجد له مَدْفَعاً، فهذا لا يليق بموضوع اللعان ومحاسن الشرع.
وإن قلنا: إنها تلتعن، فإن امتنعت عن اللعان، حُدّت، كما لو امتنعت عن اللعان في صلب النكاح.
ثم إذا جرى اللعان في بينونةٍ أو نكاح فاسد، فهل يفيد اللعانُ الحرمةَ المؤبدة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يفيده؛ طرداً لهذا الحكم مهما جرى اللعان على الصحة.
والوجه الثاني- أنه لا يتضمن التحريم؛ فإنه لم يرد على نكاحٍ، والحرمة المؤبدة معلّقةٌ بلعانٍ يتضمن قطعَ نكاح.
وقد انتجز ما أردنا جمعه في هذه القواعد، وإنما جمعناه لأنه مبثوث في الكتاب من غير انتظام، فرأينا أن يُلفى في مكانٍ واحد.
9645- ثم نعود إلى ترتيب السواد ومسائله.
فإذا قذف الرجل زوجته المجنونة، فإن كان ثَمّ ولد، فله نفيُه باللعان، وتقع الفرقة وتتأبد، ويندرىء التعزير.
وإن لم يكن ثَمّ ولد، ففي جواز اللعان الوجهان المذكوران، فلا شك أنها ليست من أهل الطلب في الحال، ولا يقوم وليها مقامَها في الطلب؛ لأن هذا أُثبت ليشفيَ الغيظَ ودَرْكِ الثأر كالقصاص، فلا سبيل إلى التفويت.
فإن قلنا: لي له اللعان، فلو لَمْ يتفق حتى أفاقت، فلها طلب التعزير، وللزوج الدرء باللعان الآن، على المذهب الذي يجب القطع به.
ولو قذفها وهي مُفيقة، فجُنَّت قبل اللعان، فإن كان ثَمّ ولد الْتعن الزوج، ولم يؤخّر، فإن لم يكن ولد وقد تعذر الطلب، ففي جواز اللعان الخلاف المقدم.
ولو قذفها في حالة الجنون بزناً في حالة الإفاقة، فهذا القذف موجِبٌ للحد، نظراً إلى وقت الإضافة، ولا اعتبار بصفة المقذوف في الحال، وهذا بمثابة قذف الميت مستنداً إلى حياته، فإنه موجبٌ للحدّ، حملاً على التأريخ بالحياة، وكذلك القول في الجنون والإفاقة، غيرَ أنها إذا كانت مجنونة، لم تطلب، ولم ينُب عنها في الطلب أحد، فلو ماتت المجنونة قبل الإفاقة، قام بطلب الحد من يرثها الحدَّ، وللزوج اللعان لدرء الحد بعد موت الزوجة.
ولو قذفها وهي مجنونة، فموجَب القذف التعزير إذا لم يؤرِّخ الزنا بالإفاقة، فلو ماتت ورث التعزيرَ من يرث الحد، ثم أَمْر اللعان على ما ذكرناه.
9646- وإذا قذف امرأته الأمة، فطلبُ التعزير إليها دون مولاها؛ لأن التعزير يجب للاعتداء على العِرْض، ولا حق للمولى في عِرض المملوك، وإنما يملك منها ومن العبد ما يعود إلى المالية، والعِرْض والذمة خارجان عن ملك المولى، وعلى هذا قال فقهاؤنا: لو قذف السيد عبده، وجب للعبد على المولى التعزير، لأنه تصرّف فيما ليس له، وكان كما لو قذف مملوكَ الغير، وليس كالقصاص؛ فإن الجناية تَرِد على الرقبة، وهي معدن المالية.
ويجوز أن يقال: لا يملك العبد طلبَ التعزير من مولاه، ولكن إذا شكاه، قيل له: لا تُؤذه، فإن أبى، كان كما لو زاد على الحدّ في الاستخدام.
والأوجه ما ذكره الأولون.
ولو قذف زوجته الأمةَ، فماتت قبل أن تطلب، فهل لمولاها طلب التعزير بعد موتها؟ فعلى وجهين:
أحدهما: ليس له ذلك؛ فإنه لا يخلفها، وإنما الوارث يخلف موروثه الحرّ بسببٍ أو نسب.
والثاني: له حق الطلب؛ فإنه أخص الناس به، واختصاصُه قطَع سائرَ جهات الاختصاص عنه، حتى قطع اختصاصَه بنفسه، وما الوراثة إلا ضربٌ من الاختصاص.
9647- وكل ما ذكرناه ينبني على مذهبنا في أن حدّ القذف موروث، وهذا الأصل متفرّع على أن حد القذف حقٌّ للآدمي، وليس حقّاً لله تعالى، خلافاً لأبي حنيفة وأقرب نتيجةٍ لهذا الأصل مسألتان: إحداهما- أن من قُذف فلم يطلب الحدّ حتى مات، ورثه ورثتُه على ما سنفصله، وعند أبي حنيفة لا يرثونه مع قوله: إن من قذف ميتاً، فلورثته طلب الحد.
والنتيجة الثانية- العفوُ والإسقاط، فعندنا يسقط حدُّ القذف بإسقاط المقذوف، إذا كان من أهل الإسقاط، خلافاً لأبي حنيفة.
ثم إذا قضينا بكَوْن الحد موروثاً، فقد اختلف أصحابنا فيمن يرثه: فمنهم من قال: يرثه جملةُ الورثة: من يتعلق منهم بالنسب ومن يتعلق بالسبب.
ومنهم قال: يختص وراثته بمن يتعلق بالنسب؛ فإن الذب عن العِرضِ يتعلق بالذب عن النسب، فاتجه اختصاصه بأهل النسب.
ومن أصحابنا من قال: يختص بعصبات النسب، وهم الذين يثبث لهم حق التصرّف في ولاية التزويج.
فإذا فرعنا على هذا، فلا شك أن الأب يستحق، وفي الابن كلامٌ: من أئمتنا من ورّثه وجعله على ترتيبه في العصوبة، وقدّمه على من عداه.
ومنهم من لم يُثبت له هذا الحق، كما لا يثبت له حق ولاية التزويج.
ولو فرض القذف بعد الموت، فالمقذوف الميتُ، والطالب بالحد من يرثه لو وجب في حياة المقذوف.
ورتب الأئمة الزوجين والقذفُ مُنشَأٌ بعد الموت عليهما والقذفُ في حالة الحياة، والصورة الأخيرة أولى بقطع الاستحقاق، والفرق أن القذف جرى في الحياة والسبب قائم وهو الزوجية، وهاهنا أنشأ القذف بعد ارتفاع السبب.
9648- وإذا ثبت حد القذف بحق الورثة لجماعة، فعفا واحد منهم، ففي المسألة أوجه: أظهرها- أن للباقين استيفاء الحد بكماله، ولم يؤثّر عفوُ من عفا، لأنه ثبت للورثة، فلا سبيل إلى إسقاط حقوق الطالبين لا إلى عِوض، بخلاف القصاص.
والثاني: تسقط حقوق الباقين، كما تسقط حقوقهم عن القصاص إذا عفا بعض المستحقين.
والوجه الثالث: أنه يسقط بإسقاط من عفا مقدار حقه لو قُدّر التوزيع عليهم، حتى إذا كان الحد بين ابنين، فعفا أحدهما، سقط بعفوه أربعون جلدة، وبقي مثلها للابن الذي لم يعف.
وهذا الذي ذكرناه الآن تنبيهٌ على التراجم، وسنعود إلى هذا الفصل قاصدين، إن شاء الله عز وجل، فإذ ذاك نوضح الأصول والتفريعات، إن شاء الله عز وجل.
ومن قذف موروثَه فمات المقذوف، سقط الحد بوراثة القاذف، ولا يتصور فرضُ هذا في القصاص؛ فإن من جَرَح موروثَه، فمات، فالقصاص قائم عليه؛ فإنه قاتل والقاتل محروم عن الميراث.
9649- ثم قال الشافعي رحمه الله: "ولو التعن وأبَيْنَ اللعان... إلى آخره".
فَرَضَ الشافعيُّ اللعان في جمعٍ من النسوة، والحكم. لا يختلف، ومقصود الفصل الكلامُ في امتناع أحد الزوجين من اللعان، فإن امتنع الزوج-والقذف موجِبٌ للحدّ- حُدّ حدَّ القذف.
وإن التعن الزوج وامتنعت، حُدّت حدَّ الزنا، ولا حاجة إلى تفصيل الحدود؛ فإنها ستأتي في كتابٍ، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "ولا أَجبُر الذمّيةَ على اللعان إلا أن ترغب في حُكْمنا... إلى آخره".
9650- إذا قذف الرجل امرأته الذمية ولاعَن، عُرض اللعان عليها، فإن أبت نصّ الشافعي على أنها لا تجبر على اللعان، ولا تُحد، فإن رضيت بحكمنا، حكمنا عليها حينئذ. هذا هو النص.
واختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قال: هذا يخرّج على القولين المذكورين في أن أهل الذمة هل يُجبرون على أحكامنا، وقد قدمنا هذا الأصلَ، وسيأتي استقصاؤه في أدب القضاء، إن شاء الله عز وجل.
فإن قلنا: إنهم مُجْبَرون، فالذمية مجبرة على اللعان، سخطت أم رضيت، حتى إذا امتنعت، قضينا عليها بما نقضي به على المسلمة الناكلة عن اللعان.
والثاني: أنها لا تجبر.
ومن أصحابنا من قطع القول بأنها لا تجبر على اللعان إلا أن ترضى بحكمنا، وهذا هو الذي صححه المحققون؛ لأنه لا يبقى بعد لعان الزوج إلا ما يتعلق بمحض حق الله تعالى، وحقوقُ الله تعالى مبناها على المسامحة، فلو حملناها على اللعان، لكان ذلك حملاً على أمرٍ مالُه-لو فرض النكولُ- إقامةُ حد الله تعالى، وكان هذا الطرف ليس متعلقاً بحق الزوج، وليس معدوداً من خصومة الزوج.
وألحق الأئمةُ بهذا أمراً بدعاً به تَبين القاعدةُ، فقالوا: إذا كان التلاعن بين مسلمين، فالتعن الزوج، لم يتوقف عرض اللعان عليها على طلبه، حتى لو رضي بأن لا يعرض اللعان عليها، لم نبال به، وقيل لها: قام عليك حجةٌ، فادرئيها، تسْلمي، وإن أبيتِ، أقمنا عليك حدَّ الله تعالى.
ومن لطيف المذهب في هذا أن الخصومة إذا دارت بين المسلم والذمّي، فقد اتفق الأصحاب على أن الذمِّي محمولٌ على حكم الإسلام.
وهاهنا تردُّد، والتردد الذي ذكرناه سببه انقطاع جانبها عن جانبه، فليلتعن الزوج، وليتركها.
نعم، إن قذف الذمّي زوجتَه الذمية، ففي إجبار الزوج على اللعان إذا طلبت من غير أن ترضى بحكمنا القولان المشهوران في أن أهل الذمة هل يُجبرون على أحكام الإسلام؛ فإن اللعان في جانبه ومطالبته بالتعزير يتعلق بحقوق الآدميين.
9651- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "لو كانت امرأة محدودة في زنا، فقذفها بذلك الزنا... إلى آخره".
وهذا هو الفصل الذي أدرجناه في أثناء الأصل الذي ذكرناه، وأتينا به مقرَّراً، فلا حاجة إلى إعادته.
9652- ثم قال الشافعي رحمه الله: "وإن أنكر أن يكون قذفها... إلى آخره". إذا ادّعت المرأة على زوجها أنه قذفها، نُظر: فإن سكت الزوج، ولم يُحِرْ جواباً، قام سكوته مقامَ الإنكار في سماع البينة عليه، فإذا أقامت شاهدين على أنه قذفها، فله أن يلتعن، فإنه لم يصرح بإنكار القذف، وإنما أقمنا سكوته مقام الإنكار في قبول البيّنة، وهو ليس بإنكارٍ على الحقيقة، والبينة تسمع لعدم الإقرار، لا لحقيقة الإنكار.
ولو قال الزوج لما ادّعت القذفَ: ما قذفتُك وما زنيتِ، فأقامت شاهدين على أنه قذفها ونسبها إلى الزنا، فليس للزوج أن يلتعن، فإنه قد أنكر القذف وبرّأها؛ إذ قال: ما زنيتِ، واللعان يستدعي قذفاً.
فإن أنشأ قذفاً، التعن، ثم لا يتوجه عليه الحد بالقذف الذي ثبت وأنكره؛ فإن اللعان يُثبت الزنا عليها ولا يتصور مع ذلك أن نطالبه بالحد.
ولو قال الزوج لما ادعت القذفَ: ما قذفتُك، فأقامت شاهدين أنه قذفها، فللزوج أن يلتعن، فإن قوله ما قذفتك يمكن حمله على أن الذي تقدم مني لم يكن قذفاً، وإنما كان قولاً حقّاً، فإذا ذكر الزوجُ هذا التأويلَ الذي ذكرناه، وأراد الالتعان من غير قذفٍ جديد، فله ذلك.
ولو قال: ما قذفتك، فلما قامت عليه البينة، لم يذكر التأويل الذي ذكرناه، ولم يجدد قذفاًً، فهل له أن يلاعن؟ فعلى وجهين:
أحدهما: ليس له اللعان؛ لأنه يصير بهذا مكذباً نفسه، وقد أنكر أصل الرّمي، وعلى إنكاره قامت البينة، فكيف يقول: "إني لمن الصادقين فيما رميتها به "- وما كان رماها بزعمه.
والوجه الثاني- له أن يلاعن؛ لأنه وإن أنكر القذف، فقوله مردودٌ عليه بالبينة، فصار كأنه لم يكن.
وشبه هؤلاء هذه المسألة بما لو اشترى شيئاً، فظهر أنه مستحَق، وقامت الخصومة، فقال: المشتري للمستحِق في أثناء الخصومة: هذا الشيء كان ملك فلان، فاشتريته منه، فإذا قامت البينة على الاستحقاق، وانتُزِع الشيء من يده، فله أن يرجع بالثمن على البائع، وإن كان أقر له بالملك في أثناء الخصومة؛ لأن إقراره رُدّ عليه بالبينة، وأيضاًً، فإن قوله: "أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميتُها " يتضمّن قذفاًً، وكأنه ابتداء قذفٍ ولعانٍ.
وهذا ضعيف؛ إذ لو جاز اعتماده، لجاز ابتداء كل زوج باللعان من غير تقديم قذف.
فهذا بيان الفصل.
9653- وفيما قدمنا مباحثة في شيء واحد، وهو أنا ذكرنا في أقسام المسألة أن الزوج لو قال: ما قذفتُها، وما زَنَتْ، فنفى القذفَ وبرّأها، فليس له أن يلتعن. هذا سديد لا نزاع فيه.
قال القاضي: إن أراد اللعان ابتدأ قذفاً جديداً، وهذا فيه نظر؛ من جهة أن قوله: ما زنت يتضمّن الإقرار ببراءتها من الزنا، فإذا قذفها إنشاءً، فَقَذْفُه المنشأ يناقض إقراره ببراءتها من الزنا، فكيف يثبت قذفُه، وهو مناقض لقوله الأول؟
والممكن في الانفصال عن ذلك أن يقال: "ما زنت فيما سبق، وقد زنت على قرب العهد".
والذي يحقق هذا أن الرجل لو برّأ إنساناً عن الزنا، ثم قذفه، فهذا قذفٌ موجبٌ للحد.
فلو قال: هذا القذفُ غير منتظم منّي، فإني قدمت الإقرار بالبراءة، قيل له: قد آذيتَ بقذفك، وتعرّضتَ للعِرْض المصون عن القذف بالحدّ، فلا يراعى في القذف، والمقذوفُ يزعم أنه كذَبَ-على كل حال- إمكانُ الصّدق.
هذا هو الممكن في ذلك.
والإشكال بعدُ قائم؛ فإن التبرئة مطلقةٌ مسترسلةٌ على جميع الأزمان، والقذف بعدها مناقض لها، وقوله وإن كان قذفاً في حق المقذوف، فهو مؤاخذ في حق نفسه بسابق قوله.
والذي استقر الكلام عليه أنه إذا برّأ من الزنا، لم يصح القذف منه إلا أن يتخلل زمانٌ يمكن وقوع الزنا فيه، فينشىء قذفاً ويلاعن، ولكن لا يَسقُط الحدّ الأول، إلا على مذهب سقوط حصانتها بلعانه، كما سيأتي تفصيل ذلك.
وبالجملة ما ثبت من القذف بالبيّنة مع ما أنشأه بمثابة ما لو قذف أجنبيةً ثم نكحها وقذفها في النكاح، وسيأتي شرح هذه المسائل، إن شاء الله عز وجل.
9654- ثم قال: "ولو قذفها، ثم بلغ... إلى آخره ".
قذْفُ الصبي لا يوجب حداً ولا تعزيراً للمقذوف يتعلّق بطلبه، ولكن يعزره القائم عليه لإساءة أدبه، كما يفعل ذلك به في سائر جهات التأديب والتثقيف.
قال القفال: إذا همّ بتأديب المراهق، فبلغ، انكف عنه وإن كان والياً؛ فإن البلوغ أكمل الروادع، والعقل الذي قضى الشرع بكماله أَبْينُ وازع، فلا يؤدَّبُ مكلَّف على الوجه الذي يُؤدَّبُ عليه الصبي؛ فإن المكلفَ معاقَبٌ، وكل ما يقع به من إيلام، فهو عقابٌ، وما يقع بالصبيّ تأديبٌ بمثابة رياضة الدّوابِّ، ولهذا نأمر الطفل بقضاء ما فات من الصلوات ما دام طفلاً، فإذا بلغ، كففنا الطلبَ عنه.
9655- ثم قال: "ولو قذفها في عدة يملك فيها رجعتها... إلى آخره".
إذا قذف الزوج الرجعيةَ، لاعن عنها، فإنها ملحقة بالزوجات، ولا يتوقف جريان اللعان على أن يرتجعها، وليس كما لو ظاهر عنها، أو آلى، فإنه إن ظاهر، لم يصر عائداً ما لم يرتجعْها، ولو آلى، لم تحتسب المدة، ما لم تراجَع، وينتجز اللعان في الرجعية انتجازه في الزوجة، وكل أصل مُقَرٌّ على خاصيته وحقيقتِه.
أما العوْدُ، فمناقِضُه ترك الرجعة وهي محرّمة لا مناقضة فيه، ومدّة الإيلاء لا تحتسب، فإنها معتزلة عن زوجها، والمدة مَهَلٌ يتخير الزوج بين الوطء والترك، وهذا لا يليق إلا بحال الحِلّ.
9656- ثم قال: "ولو بانت فقذفها بزنا... إلى آخره".
ذَكَر القذفَ بعد البينونة، وهذا مما قدمنا ذكرَه في أثناء القواعدِ التي مهدناها والأصولِ التي جمعناها، ووصلنا بذلك القذفَ المؤرّخَ في النكاح بغيره، وفي غير النكاح بالنكاح، فلا حاجة إلى إعادة ما مضى، وَوَصَلَ بما ذكره من القذف بعد البينونة القذفَ في النكاح الفاسد، وهو مما تقدم أيضاًً، وفيه مَقْنع تام، وقد قدمنا قذفَ الرّجعية واللعانَ عنها.
9657- ولو ارتد الزوج والزوجةُ مدخولٌ بها، فقذفها في الردّة، فإن لم يلاعن، وعاد إلى الإسلام قبل انقضاء العدة، أمكنه أن يلاعن؛ فإن النكاح قائم.
وإن لاعن في الردة، نُظر: فإن أصرّ حتى انقضت العدّة، فقد بيّنا أن اللعان وقع في حالة البينونة، فإن كان ثَمّ ولدٌ نفاه، فاللعان ثابت، والحد يندفع بجريان اللعان، كما قدمنا ذكره.
وإن لم يكن ولدٌ، فقد ذكر الأصحاب وجهين في أن الحدّ هل يندفع بذلك اللعان، وقد بيّنا أنه وقع بعد ارتفاع النكاح؟ وكان شيخي يبني هذا على تردد الأصحاب في أن الجاريةَ في العدة بسبب اختلاف الدين سبيلُها إذا بان ارتفاع النكاح سبيلُ الرجعيات أم سبيل البائنات؟ وقد ذكرنا تقديرَ ذلك في كتاب النكاح.
والوجه عندنا تقريبُ هذا من الخلاف الذي ذكرناه فيه إذا قذف زوجته في نكاحٍ ظنه صحيحاً، ثم بان فسادُه، وقد لاعن على ظن الصحة، ووجه التقريب بيّن.
ثم الأصحاب أطلقوا القول بأن المرتد يلاعِنُ، وإن كنا نجوّز أن يصرّ على الردة.
ويمكن فرض هذه المسألة فيه إذا التعن ولم نشعر بردّته، حتى يقالَ: إن علمنا كونه مرتداً، نأمرها بالتوقف، ولم يصر إلى هذا أحد من الأصحاب، مع إمكان الاحتمال فيه.
9658- ثم ذكر الشافعي رحمه الله: أن الرجل إذا قذف امرأته بالإتيان في الدبر، وأثبتَ اللعانَ، وأخذ المزني يتعجب، وليس هذا موضع التعجب؛ فإن الشافعي بنى هذا على الأصح في أن هذه الفَعْلةَ لو تحققت، وجب بها حدُّ الزنا، وكل ما يتعلق به حد الزنا إذا وقع يتعلق بالنسبة إليه حدّ القذف. ثم إذا كان قذفُ الزوج موجباً حدَّ القذف، فلا استبعاد في جريان اللعان، وسيأتي الكلام في ألفاظ القذف في باب منفرد بعد هذا، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "ولو قال لها: يا زانية بنت الزانية... إلى آخره "
9659- إذا قال لامرأته، وأمُّها حرة مسلمة، على ظاهر صفات المحصنات: يا زانيةُ بنتُ الزانية، فعليه حدان؛ لأنه أتى بكلمتين مختلفتين، كلُّ واحدةٍ منهما قذفٌ صريح في حق محصَنةٍ، فكان كما لو قال لزوجته: أنت زانية، وأمك زانية.
ولو قال لمنكوحتين أو أجنبيّتين: أنتما زانيتان، ففي تعدد الحدّ قولان سيأتي ذكرهما:
أحدهما: أنه لا يجب إلا حدٌّ واحد، والفرقُ أن الكلمةَ متحدةٌ في المسألة الأخيرة، وعلى اتحادها التعويلُ على هذا القول، ولا نظر إلى تعدد المعنى.
ولو قال في مسألتنا: أنتِ وأمك زانيتان، فقد رتب أصحابنا هذا على ما لو قال لأجنبيّتين، أو منكوحتين: "أنتما زانيتان". إن قلنا: يلزمه هناك حدان، فهاهنا أولى؛ لأن موجَب القذف يختلف في الأجنبية والمنكوحة، ولا يختلف في المنكوحتين والأجنبيتين.
وإن قلنا في الزوجة والأجنبية يلزمه حد واحد، فإن لم يلاعن حُدّ لهما حداً واحداً إذا اتحدت الكلمة، وإن لاعن بقذفها، سقطت طَلِبتُها، والحدُّ باقٍ للأم؛ لأن اللعان حجةٌ خاصة أثرها في قذف النكاح، فإن قيل: هلا كان لعانه شبهةً؛ فإن الحد واحد لا ينقسم؟ قلنا: لم يتعرض الزوج في لعانه لزنا الأم، ولو تعرض له، لكان باطلاً، وليس اتحاد الحد على حقيقته، إنما هو على مذهب التداخل، وهذا ينافي حقيقةَ الاتحاد، وما ذكرناه فيه إذا قال لزوجته وأمها أنتما زانيتان.
فأما إذا قال: يا زانيةُ بنتُ الزانية، فقد ذكرنا أن الحد يتعدد قولاً واحداً، ثم طلبُ حد الأم إليها، أو إلى من تستنيبه، وحق البنت مفوض إليها.
9660- واختلف أصحابنا في تقديم إحداهما على الأخرى: فمنهم من قال: لا يثبت لواحدة منهما حقُّ التقديم بعد ما قذفهما.
وكذلك لو قذف شخصين، فرتب أحدهما على الثاني، فإنه صار بكل قذف مستوجباً للحد، فلا أثر للتقدّم والتأخر، وهو كما لو أتلف مالَيْن على شخصين في زمانين، فلا يتقدم أحدهما، ثم هذا القائل يقول: إذا جاءتا تطلبان، فلا وجه إلا الإقراع بينهما.
ومن أصحابنا من قال: الأم هي المقدمة؛ لأن حدها بعيد عن السقوط، وحدّ البنت يسقط باللعان، فكان الحد المتأكد أولى بالتقديم، واعتل بعض الأصحاب بحرمة الأم، وهذا لا حاصل له.
ومن أصحابنا من قال: البنت مقدّمة، لأن الزوج بدأ بذكرها؛ إذا قال: يا زانيةُ، فثبت الحد لها أولاً، ولا بُعْد في التقديم، بهذا السبب في العقوبات، ولذلك نقول: من قتل رجلين على الترتيب، فهو-على الترتيب- مسلّم إلى أولياء القتيل الأول، وهذا أبعدُ ترجيح؛ فإن المحل يفوت بالتسليم إلى أولياء الأول، فإذا كانت البداية تؤثر والحالة هذه، فلا بُعد في تأثيرها في حد القذف.
والذي يوضح ذلك أنا إذا حَدَدْناه لا نوالي عليه، بل نمهل رَيْثما يبرَأُ جلدُه، وفيه تأخير الحد الثاني.
ثم بنى الأصحاب على ما ذكروه أنه لو قذف أجنبيتين بكلمتين، فهل تُقدّم المذكورة أولاً بحق الحد؟ فعلى ما ذكرناه.
ولو قدم ذكرَ أم زوجته، ونسبها إلى الزنا، ثم ذكر زوجته، انقدح وجهان:
أحدهما: القرعة، وهو حكمٌ بالاستواء.
والثاني: أن الأم مقدمة لتقدم ذكرها في القذف، ولحرمتها.
ولا يكاد يخفى التفريع، وترديد الصور على من أحاط بالمعاني المعتبرة.
9661- ثم قال: "ومتى أبى اللعان... إلى آخره".
قد ذكرنا أن الشبه الظاهر في اللعان من الشهادة أن النكول عنه لا يمنع العودَ إليه، فلو امتنع الزوج عن اللعان، ثم رغب فيه لمّا همَمْنا بإقامة حد القذف عليه فليلتعن، والمرأة لو امتنعت عن اللعان، ثم رغبت فيه لما هممنا بإقامة حد الزنا عليها، فلها أن تلتعن.
قال الشافعي رحمه الله: لو امتنع الزوج وأقمنا عليه معظمَ حد القذف، ولو لم يبق إلا سوطٌ، فإذا قال: دعوني ألاعن، تركناه حتى يلاعن، وكذلك لو أقمنا على المرأة معظمَ حد الزنا، وكانت بكراً، فرغبت في اللعان تركناها.
ولعلّ السببَ في ذلك-بعدَ الإجماع- أن الزوج يأتي باللعان إتيانَ المدّعي بالبينة، وإن كان لا تطلب منه، ويؤثِّر لعانُه في إثبات الحد عليها، فلما لم يقف اللعان على العرض والطلب، لم يسقط بالنكول، وشابَه البينةَ من هذا الوجه.
وحق الناظر في الأشباه أن ينظُر إلى أخصها، والنكول عن اليمين امتناعٌ عن المطالبة بها، فقرب أخذ حكم النكول من الطلب من طريق الشبه.
وهذا تَرِدُ عليه أيمانُ القسامة، واليمينُ مع الشاهد، ويمينُ الرد، وللأصحاب كلامٌ في النكول عن هذه الأيمان؛ من حيث إنها تجري من غير طلب من الخصم فيها، وستأتي أحكامها مشروحة، إن شاء الله عز وجل.
9662- وإذا أقمنا حدَّ القذفِ على الزوج، فقال: أنا ألْتعن، لم يُمَكّن. قال الشيخ القفال: لم يَفْصِل الأحاب في هذا بين أن يكون ثَمّ ولد وبين ألا يكون.
والصواب عندي أن نقول: إن لم يكن ولد، فالجواب كذلك؛ فإنه لا فائدةَ في اللعان بعد إظهار تكذيبه بإقامة الحد عليه، فأما إذا كان ثَمّ ولد، فالوجه أن يلاعن وإن أقيم الحد عليه.
فحصل إذاً في هذا الطريق نقلُ القفال عن الأصحاب أنه لا يلاعن، ووجهُه أن القذف سقط أثره بإقامة الحد، فكأن الزوج بعد الحد ليس قاذفاً، والقذف لابد منه في نفي الولد، كما سيأتي شرح ذلك، إن شاء الله عز وجل.
وأختارُ أن يلاعن؛ لظهور الغرض في نفي النسب، والقذفُ وإن أقيمت عقوبتُه كائنٌ، ولو قيل: تأكد القذف بالحد لم يكن بعيداً، فإن الذي يلاعن يُخرج نفسه عن كونه قاذفاً.
ثم ذكر الشافعي رحمه الله بعد هذا القذفَ في النكاح الفاسد، والتفصيلَ فيه إذا كان ولد أو لم يكن، وتعرض لمحاجّة أبي حنيفة، وذكر بعده الردَّ عليه في لعان الذمي والعبد، وقد تقدم جميع هذا.
فصل:
9663- قد ذكرنا أن النسب الذي يتعرّض للثبوت في النكاح الصحيح أو الفاسد يُنفى باللعان، فكذلك لو فرض تعرُّض نسب للثبوت بسبب وطء شبهة، فاللعان ينفيه.
فأما النسب الذي يلحق بسبب ملك اليمين، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه لا سبيل إلى نفيه باللعان.
وقال أحمد بن حنبل ألا تعجبون من أبي عبد الله، يقول: يلاعن الرجلُ عن أم ولده، فمنهم من قال: أراد مالكاً، فإنه يُكنَّى بعبد الله، ومنهم من قال: أراد الشافعيَّ، وأثبت هذا قولاً عنه، وقال: للمَوْلى أن يلاعن عن الأمةِ وأمِّ الولد، فحصل إذاً قولان على رواية أحمد بن حنبل:
أحدهما: لا يلاعن عن الأمة، وهو المذهب؛ لأن نص القرآن في الزوجات والأزواج، ولا مجال للقياس.
والذي يجب التنبيه له أن الشافعي في إثبات اللعان بِنَفْي النسب في النكاح الفاسد حاد عن النص بعض الحَيْد، ولكنه وجَدَ مستمسَكاً قويّاً في الشبه، مأخوذاً من مثل مسلكه في إلحاق الشيء بالشيء لكونه في معناه، وأما ملك اليمين، فإنه نأْيٌ عن النكاح بعيدٌ، فضَعُفَ تقدير اللعان.
ثم إن لم نثبت اللعان-وهو الرأي- فإذا أقر السيد بوطء أمته، فأتت بولد لزمان يحتمل أن يكون من الوطء المقَرّ به، فالنسب يلحق، ولا دفع باللعان، وتفصيل القول في هذا سيأتي في كتاب الاستبراء، إن شاء الله عز وجل.
ولو ادعى السيد أنه استبرأها بعد أن وطئها، ثم أتت بالولد لزمانٍ يحتمل أن يكون العلوق به بعد الاستبراء، فتفصيل المذهب في هذا مما لا نرى الخوض فيه إذا لم يكن ملك اليمين مترتِّباً على نكاح؛ فإن ذلك يتعلق بأصول الاستبراء، والذي نذكره هاهنا يترتّب ملك اليمين على النكاح فيه إذا اشترى الرجل زوجته.
9664- فنقول: إذا اشترى زوجتَه الأمةَ، وأتت بولد لأقلَّ من أربع سنين، ولم يُقرّ بوطئها في ملك اليمين، فله النفيُ باللعان-وإن كنا لا نرى إجراء اللعان فيما يتعلق بملك اليمين على الخصوص- والسببُ فيه أنه لو أبانها، فأتت بولدٍ، فأراد نفيه باللعان، مُكِّن منه؛ فمِلْكُ اليمين لا ينقص عن زمان البينونة، وتحقيقه أن اللحوقَ بسبب النكاح وتوقُّعِ العلوق فيه، فإذا كان اللحوق بسبب النكاح، فاللعان يترتب على النكاح.
وإن هو أقرّ بوطئها في ملك اليمين، وأتت بولدٍ لأقل من ستة أشهر من يوم الوطء المقرّ به، فلا حكم للإقرار بالوطء، والمسألة كما قدمناها.
وإن كان لأقلَّ من أربع سنين، فهو منفي عنه باللعان. فإن كان لأكثر من أربع سنين من يوم الشراء، ولأقل من ستة أشهر من وقت الوطء المقرّ به، فالولد منفي من غير لعان.
وإن أتت به لأكثرَ من أربع سنين من يوم الإقرار بالوطء، فهو منفي عنه بلا لعان.
وإن أتت بالولد لستة أشهر فصاعداً من يوم الإقرار بالوطء، فهو ملتحق به، إلا أن يدَّعي استبراءً وتأتي به لستة أشهر من انقضاء الاستبراء، فإن أتت به لأقلَّ من ستة أشهر من يوم الاستبراء ولستة أشهر فصاعداً من يوم الإقرار بالوطء، فهو ملحق، فلا حكم للاستبراء؛ لأنا علمنا أن ما رأته من الدم، كان على الحمل.
9665- فإن قيل: إذا أقر بوطئها، فأتت بولدٍ لستة أشهر من يوم الوطء، ولأقلَّ من أربع سنين من يوم الشراء، قُلتم: يَلْحقهُ بحكم اليمين ولا يملك النفيَ باللعان، ومن الجائز أنها علقت به في النكاح قبل الشراء، فهلا أثبتم النفي باللعان لهذه الجهة من الاحتمال؟
قلنا: وإن احتمل العلوقَ في النكاح، فالوطء بعده قَطَعَ حكمَ النكاح، وصيّر المملوكةَ مفترشَة بملك اليمين، فلئن جُوّز نفيُ ولد النكاح، فالتفريع على أن ولد ملك اليمين لا ينفى، وقد ثبت فراش ملك اليمين، فَنَسَخَ هذا الفراشُ ذلك الفراشَ في المعنى الذي نحن فيه.
وإذا اعتدت المرأة عن طلاقٍ، وَنَكحت زوجاً، وأتت بولد بعد النكاح الثاني لستة أشهر من النكاح الثاني، وأقلّ من أربع سنين من انقطاع النكاح الأول، فالولد ملحق بالزوج الثاني، وإن احتمل أن يكون العلوق به من الأول.
ولو أقر بوطئها في ملك اليمين، وادعى استبراءً بعد الإقرار بالوطء، فأتت بالولد لستة أشهر من انقضاء الاستبراء، ولأقلَّ من أربع سنين من وقت الشراء قال ابن الحداد: ينتفي النسب بلا لعان؛ وذلك أن فراش ملك اليمين ثبت بالإقرار بالوطء، وانقطَعَ أثرُ النكاح، ثم انقطع النسب في ملك اليمين بدعوى الاستبراء وإتيان الولد بعد الاستبراء لستة أشهر فصاعداً، وتابع معظمُ الأصحاب ابنَ الحداد.
قال الشيخ أبو علي: من أصحابنا من قال: إذا انتفى النسب لأجل دعوى الاستبراء في ملك اليمين، فيلحَقُ بحكم النكاح إذا أتت به لزمانٍ يُحتَمل أن يكون العُلوق به من النكاح؛ فإن الأمة وإن صارت فراشاً بالوطء، فلا يقوى فراش ملك اليمين على نسخ حكم النكاح السابق بالكلية، والدليل عليه أن من وطىء معتدة بشبهة، فلا نقول: إذا أمكن إلحاق الولد بالثاني لا نلحقه بالأول، بل يتعرض ثبوت الولد لهما، وهو في مجال القيافة.
وهذا الوجه الذي ذكره الشيخ غريب، والمذهب ما اختاره ابن الحداد.